بسم الله والرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يسعد محبكم أخلاء مدرسة عمر بن الخطاب ورواد موقعها المتميز أن يتجدد التواصل العلمي معكم من خلال هذا المقال  المتواضع، والذي سنبدأ فيه ـ بحول الله وعونه ـ الحديث عن أول مقصد من مقاصد القرآن الكريم.

.. كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المقال الأول فإن الشيخ الطاهر بن عاشور جعل مقصد  " إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح"[1]؛ الأول في ترتيب المقاصد الثمانية التي ذكرها في مقدمة "التحرير والتنوير"، وكذلك فعل كل من اهتم بموضوع "مقاصد القرآن" من المتأخرين،  كالشيخ رشيد رضى (1354 هـ) [2]، والشيخ محمود شلتوت (ت1383 هـ  ) [3] وغيرهم..

وكذلك قال القدامى كالإمام الرازي (ت 606هـ) في تفسيره ـ مثلا ـ :" اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول "[4]

ومن ذلك أيضا افتتاح الفقهاء مؤلفاتهم ومنظوماتهم.. الفقهية بالحديث عن العقيدة ومسائلها، كيحيى القرطبي ( ت 899هـ) في "مقدمته" الفقهية [5]  وابن جزي في القوانين الفقهية (741هـ ) وابن أبي زيد (310 هـ)  في كتاب الرسالة، والشيخ خليل في " الجامع"[6]  وابن عاشر (1231 هـ) في "المرشد المعين" وغيرهم..

إذا فغرض القرآن الأول وغايته؛ هو تحرير الإنسان من الأوهام الشركية، والخرافات الوثنية، ومن التذلل والانكسار لأي مخلوق من المخلوقات الإنسية والجنية، وهذا المقصد العام لا يتحقق إلا بتحقق المقاصد الخاصة التي يتضمنها ويشتمل عليها، كمعرفة الله تعالى، والإيمان به، وتوحيده وتنزيهه .. كما سيأتي معنا في المقالات المقبلة إن شاء الله تعالى.

ولنبدأ مع المقصد الأول منها وهو معرفة الله تعالى.

 إن معرفة المخلوق للخالق ومعرفة الفقير للرازق، معرفة جازمة مطابقة عن دليل[7]  لأسمائه الحسنى وصفاته العلى هي أفضل الأعمال و" أفضل المقاصد"[8]، على الإطلاق، فالعلم بالله  تعالى من  "أفضل العلوم " [9] والعارفون بالله وبما يستحقه مولاهم من أوصاف الجلال ونعوت الكمال،  وبما يسديه إليهم من صنوف  الإنعام والإحسان، وبما يستحيل عليه من العيوب والنقائص والتحول والزوال، وبما يجوز له فعله من الأمر والنهي.. هم أحب عباد الله تعالى إليه وأكرمهم عليه  سبحانه [10]

  ولذلك قدمت المعرفة في خطابه المنزل في كتابه، على توحيده وعبادته وبقيت تشريعاته،{فاعلم أنه لا إلا إله إلا اللّه}[11]، {فاعلموا  أن الله مولاكم}[12] {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون}،[13]  وجعلت المعرفة  الغرض من خلق الكون كله، مقصد الكون مقصده الأول هو معرفة الله تعالى  { الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد احاط بكل شيء علما}[14]، ومن هذا تفسير بعض العلماء قوله تعالى: { وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون }[15]. بيعرفون،  كما يقول ابن كثير رحمه الله [16]:

 وإذا كانت المعرفة هي " المقصود من إيجاد المخلوقات: "[17] وهي أفضل المعارف، وأول المقاصد.. فإن الجهل بالله من أقبح أنواع الجهالات.. وإذا كانت المعرفة تفضي إلى النعيم والجنان.. فإن الجهل مفض إلى خلود النيران وسخط الرحمن[18].

إن معرفة  الله تعالى أول مقاصد العقيدة وأول ما يجب على المكلف، فهي نقطة البداية في توجيه السلوك البشري،[19] فمثلها كشجرة طيبة " أصلها - وهو معرفة الذات - ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها - وهو معرفة الصفات - في السماء مجدا وشرفا {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}[20] من الأحوال والأقوال والأعمال {بِإِذْنِ رَبِّهَا}[21]" [22] .
 ونصوص العلماء في أولويتها في الوجوب متواترة، وأقوالهم في الموضوع كثيرة ومتعددة، حصرها متعسر، وإيرادها كلها أو جلها متعذر، لكن اللبيب تكفيه الذكرى والإشارة،  ولا يحتاج الإطناب وطول العبارة، فمن  قولهم نظما:

قول يحيى القرطبي من المالكية: 

       واعلم بأن أول الوجوب    أن تعرف الرب من المربوب [23]

وقول ابن عاشر من الأشعرية:    

أول واجب على من كلفا       مـمكنا من نظر أن يعـرفا

 الله والرسل بالصفــــات       .....................

 وقول الإسفراييني من الحنابلة:      

أول واجب على العبيد            معرفة الإله بالتسديد[24]

 ومن قولهم نثرا: قول الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى -: " أول ما يجب على العاقل البالغ: معرفته والإقرار به.[25]  والإمام البخاري:" بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ". والعلامة الفجيجي المغربي: " والمعرفة هي أول الواجبات" [26]  و" المعرفة في حق الله تعالى وفي حق رسله واجبة عقلا ونقلا " [27]  و العلامة الدسوقي ( ت 1230 هـ) : " المعرفة واجة على كل مكلف ولو بالدليل الإجمالي" [28]  والإمام السنوني: ( ت (895 هـ)" ويجب على كل مكلف شرعا أن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز وما يستحيل وما يجوز. وكذا يجب عليه أن يعرف مثلَ ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام." [29] 

وكل تلك الأقوال منطلقها قوله تعالى: " فاعلم انه لا إله إلا الله" إذ "أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل "[30].  

 بقيت  الإشارة في الختام إلى أنه لا يلزم من وجوب المعرفة أولا على المكلفين الدخول في اختلافات بعض المتكلمين والقول برفض إيمان المقلدين، لأن موضوعنا المعرفة العامة التي يستطيع بها الإنسان أن يؤمن بالله ويتعبده وهو متصور صفاته العلا وأسماءه الحسنى، ولا تشترط  المعرفة على طريقة المتكلمين من النظر وتحرير الأدلة وترتيبها ودفع الشبه الواردة عليها بالنظر لغير القادر عليه،[31] فالنظر ـ على أهميته ـ من الوسائل: " المتوسل به إلى المعارف وليس من المقاصد [32] الواجبة على الجميع وإنما المتعين واللازم " الذي تجب معرفته على جميع المكلفين هو الدليل الجُمَلِي وهو الذي يحصل في الجملة للمكلف العلم والطمأنينة بعقائد الإيمان بحيث لا يقول قلبه فيها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته[33]، وبحيث يعبد الله على علم "لا تكون العبادة إلا بعد معرفة المعبود"[34] " إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد"[35].

هذا ما تيسر عن المقصد الأول من مقاصد العقيدة في القرآن، ويأتي بعده "مقصد الإيمان" في المقال المقبل إن شاء المولى عز وجل.

والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين

                                            عبد الصمد بوذياب

                                          وزان في 21 رجب 1435 هـ

                                           موافق 10 ماي 2015م

[1]  الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. التحريروالتنوير. مجلد 1. ص40. دار سحنون. بدون طبعة وبدون تاريخ

[2]  ينظر " الوحي المحمدي" لرشيد رضي. ص.193 ـ 94 .مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر. ط. 3. 1406ه، 

[3]  ينظر " إلى القرآن"  للشيخ شلتوت ص 06.  دار الشرق  بيروت. 1403ـ1983م.

[4]   فخر الدين الرازي " مفاتيح الغيب" ج 13 ص 162 .   دار إحياء التراث العربي – بيروت. ط.3 .1420 هـ

[5]  شرح المقدمة الوغليسية. الشيخ زروق. ص 100. تحقيق أحسن زقور. دار التراث الجزائر. ودار ابن حزم الطبعة الأولى 1426هـ/2005م.

[6]  الشيخ خليل بن اسحاق " الجامع" . مركز نجيبوية. تحقيق أحمد بن عبد الكريم نجيب. ص 54. ط 3 بدون تاريخ.

[7]  بذلك عرف العلامة محمد المكي البطاوي. شرح أم البراهين للسنوسي. ص 69. قراءة.  محمد السماعيلي. بدون . المعرفة .

[8]   العز بن عبد السلام. شجرة المعارف والأحوال. ص 97 دار الفكر دمشق وبيروت. الطبعة الثانية 1996/م

[9]. الشيخ زروق. قواعد التصوف ص 13 ضبط وتتقديم.أحمد السايح. و توفيق وهبة. مكتبة الثقافة الدينية. / القاهرة. الطبعة الأولى 1427هـ 2006م.  

[10]  العز بن عبد السلام شجرة المعارف ـ مصدر سابق ـ ص 60 .  بتصرف بسيط

[11]  سورة محمد، الآية: 19.

[12]  سورة الأنفال ، الآية: 40.

[13]  سورة هود، الآية: 14.

[14]  سورة الطلاق، الآية: 12.

[15]  سورة الذاريات، الآية: 56.

[16] ينظر تفيسير ابن كثير وتفسير مقاتل  ونظم الدرر للبقاعي عند تفسيرهم للآية المذكورة.

[17]  حسين بن شهاب الدين الكيلاني المعروف ب" ابن قاوون" شرح العقائد العضدية. ص23.  تحقيق نزار حمادي. مؤسسة المعارف للطباعة والنشر . بيروت. الطبعة الأولى 1432 هـ 2011م

[18]  العز بن عبد السلام شجرة المعارف والأحوال. ـ مصدر سابق ـ ص 59 . بتصرف

[19]    أحمد الريسوني.الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية ص 54 . منشورات التوحيد والإصلاح. طوب بريس. 2007م.

[20]  سورة إبراهيم، الآية: 25.

[21]  سورة إبراهيم، الآية: 25.

[22]  شجرة المعارف والأحوال. ـ مصدر سابق ـ ص: 64-65 .

[23]   المقدمة القرطبية على مذهب السادة المالكية .يحيى القرطبي (ص: 101-102) بشرح الشيخ أحمد زروق تحقيق أحسن زقور. دار التراث الجزائر. ودار ابن حزم الطبعة الأولى 1426هـ/2005م

[24]    الإسفراييني . شرح العقيدة العقيدة السفارينية . ص147 .  دار الوطن للنشر . الرياض. الطبعة الأولى. 1426هـ.

[25]  الإمام البيهقي. الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد.ص 28. تحقيق احمد أبو العينين. دار الفضيلة. الطبعة الأولى 1420هـ. 1999م

[26]    محمد بن القاسم الفجيجي. " شرح صغرى السنوسي" ص 63 . عناية محمد سعيد الغازي. دار ابن حزم . الطبعة الأولى. 1432هـ 2011م

[27]   نفسه. 62

[28] محمد بن أحمد الدسوقي. حاشية الدسوقي على أم البراهين. ص 68.تحقيق ع اللطيف ع الرحمن. دار الكتب العلمية. بيروت. ط. 7 .1435هـ

[29]  الإمام السنوسي . أم البراهين. مع حاشية الدسوقي على أم البراهين وشرحها   لمحمد بن أحمد الدسوقي .. ص ـ 69ـ 68. تحقيق عبد اللطيف  عبد الرحمن.  دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة السابعة1435هـ 2014م

[30] التحرير  والتنوير  (26/ 105).

[31]  الإمام السنوسي . شرح أم البراهين. ص ـ 88. بتصرف

[32] [30]  العز بن عبد السلام. شجرة المعارف والأحوال. ص 97. بتصرف

[33]  الإمام السنوسي . شرح أم البراهين. ـ مصدر سابق ـ ص ـ 88.

[34]  محمد المكي البطاوي، شرح أم البراهين للإمام السنوسي. ـ مصدر سابق ـ ص: 68.

[35]  الموافقات، ص: 696 ـ 697.